فصل: تفسير الآيات رقم (149- 150)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏مِنْ‏)‏‏:‏ للتبعيض؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فُروض الكفاية؛ إذ لا يصلح له كُلُّ أحد، أو للبيان، أي؛ كونوا أمة تأمرون بالمعروف، كقوله‏:‏ ‏{‏كُنتُمْ خَيْرُ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرونَ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 110‏]‏ الخ، و‏{‏يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏ عطف على الخبر، من عطف الخاص على العام؛ للإيذان بفضله‏.‏

‏{‏يقول الحقّ جلّ جلاله‏}‏‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم‏}‏ يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏أمة‏}‏ أي‏:‏ طائفةً ‏{‏يدعون إلى الخير‏}‏، وهو كل ما فيه صلاحٌ ديني، أو دنيوي إذ كان يؤول إلى الديني، أو صلاح قلبي أو روحاني، ‏{‏ويأمرون بالمعروف‏}‏ وهو ما يستحسنه الطبع ويرتضيه الشرع، ‏{‏وينهون عن المنكر‏}‏ وهو كل ما ينكره الطبعُ السليم والشرع المستقيم، فمن فعل ذلك فأولئك ‏{‏هم المفلحون‏}‏ المخصوصون بكمال الفلاح‏.‏

رُوِيَ عنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ أنه سئل مَنْ خير الناس‏؟‏ فقال‏:‏ «آمرُهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم الله، وأوصلهم للرحم» وقال أيضاً‏:‏ «مَنْ أمَرَ بالمَعْروفِ ونَهَى عَنِ المُنْكَرِ كان خَلِيفَةَ اللّهِ في أرْضِهِ وخَلِيفَةَ رَسُولِه وخَلِيفَةَ كِتَابِه» وقال عليّ رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏أفضل الجهاد‏:‏ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشنئان الفاسقين- أي بغضهم- فمن أمر بالمعروف شدَّ ظهرَ المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرْغَمَ أنف المنافق، ومن شَنَأَ الفاسقين وغَضب لله غَضبَ الله له‏)‏‏.‏ وقال أبو الدرداء‏:‏ ‏(‏لتأمُرُن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليُسلطن الله عليكم سلطاناً ظالماً، لا يُجِلُّ كبيركم، ولا يرحم صغيركم، ويدعو عليه خيارُكم فلا يستجاب لهم، ويَسْتنصِرون فلا يُنصرون، ويستغفرون فلا يغفر لهم‏)‏‏.‏ وقال حذيفة‏:‏ ‏(‏يأتي على الناس زمان لأن تكون فيه جيفة حمار، أحب إليهم من مؤمنٍ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر‏)‏‏.‏

وللمتصدِّي له شروط‏:‏ العلم بالأحكام، ومراتب الاحْتِسَاب وكيفية إقامتها، والتمكن من القيام بها، ولذلك خاطب الحق تعالى الجميع، وطلب فعل بعضهم، إذ لا يصلح للقيام به إلا البعض، كما هو شأن فرض الكفاية، إذ هو واجب على الكل، بحيث لو تركوه لعوقبوا جميعاً، لكنه يسقط بفعل البعض‏.‏

والأمر بالمعروف يكون واجباً ومندوباً، على حسب ما يأمر به، والنهي عن المنكر واجب كله؛ لأن جميع ما أنكره الشرع حرام‏.‏ وأما المكروه فليس بمنكر، فيستحب الإرشاد إلى تركه‏.‏ والأظهر أن العاصي يجب أن ينهى عما يرتكبه هو؛ لأنه يجب عليه تركه، فلا يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر‏.‏ وقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «مُرُوا بالمَعْرُوفِ وإن لَمْ تَعمَلُوا بِكُلِّهِ، وانْهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وإنْ لم تَنْتَهُوا عنه كُلهُ»‏.‏

الإشارة‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة‏}‏ أي‏:‏ طائفة ينهض حالهم ويدلُّ على الله مقالهم، يدعون إلى الخير العظيم، وهو شهود ذات السميع العليم، ويأمرون بالمعروف بالهمة العلية، وينهون عن المنكر بالحال القوية، فكلُّ من رآهم بالصفا ائتمر وانتهى، وكل من صحبهم بالوفاء أخذ حظه من الغنى بالمكيال الأوفى، إن لله رجالاً من نظر إليهم سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، فهؤلاء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بالحال دون المقال‏.‏

يُحكى أن بعض الشيوخ مرَّ مع أصحابه بقوم يشربون الخمر تحت شجرة فأراد أصحابه أن يُغيروا عليهم، فقال لهم‏:‏ إن كنتم رجالاً فَغِيرُوا عليهم بحالكم دون مقالكم، فتوجهوا إلى الله بهممهم، فإذا القوم قد كسروا الأواني، وجاءوا إلى الشيخ تائبين‏.‏ وكذلك قضية معروف الكرخي مع أصحاب السفينة، الذي كانوا مشتغلين باللهو واللعب، فقال له أصحابه‏:‏ ادع عليهم، فقال‏:‏ اللهم كما فرَّحتَهم في الدنيا ففرِّحْهُم في الآخرة، فتابوا على يده جميعاً‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 109‏]‏

‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏105‏)‏ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏106‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏107‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ‏(‏108‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏109‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏يوم‏}‏ متعلق بالاستقرار في خبر ‏{‏أولئك‏}‏، أو باذكر؛ محذوفة، وقوله‏:‏ ‏{‏أكفرتم‏}‏‏:‏ محكي بقول محذوف جواب ‏{‏أما‏}‏، أي‏:‏ فيقال لهم‏:‏ أكفرتم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا‏}‏ كاليهود والنصارى الذين ‏{‏تفرقوا‏}‏ في التوحيد والتنزيه، ‏{‏واختلفوا‏}‏ في أحوال الآخرة، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «افْتَرقَتِ اليَهُودُ على إِحْدَى وسَبْعِين فرقَةً، وافْتَرقَت النَّصارَى عَلَى ثَنْتَيْنِ وسَبْعِين فِرقَةٌ، وستفترق أمتي على ثلاثٍ وسَبْعِينَ فِرْقةً، كلُّها في النَّارِ إلا وَاحِدةً‏.‏ قيل‏:‏ ومَنْ تلك الواحدة‏؟‏ قال‏:‏ ما أَنَا وأَصْحابِي عَلَيْه» وهذا الحديث أصح مما تقدم، والصحابة يروْوُن الحديث بالمعنى، فلعلَّ الأول نسي بعض الحديث‏.‏ والله أعلم‏.‏

ثم إن النهي مخصوص بالتفرق في الأصول دون الفروع، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «اخْتلاَفُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ»، ولقوله‏:‏ «من اجْتَهَدَ وأصَابَ فله أجْرَانِ، ومن اجْتَهدَ وأخطَأَ فَلَهُ أجْرٌ وَاحد»‏.‏

ثم إن أهل الكتاب تفرقوا ‏{‏من بعد ما جاءهم البينات‏}‏ أي‏:‏ الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه، ‏{‏وأولئك لهم عذاب عظيم‏}‏، يستقر لهم هذا العذاب ‏{‏يوم تبيض وجوه‏}‏ المؤمنين المتقين على التوحيد، ‏{‏وتسود وجوه‏}‏ الكافرين المتفرقين فيه، أو تبيض وجوه المخلصين وتسود وجوه المنافقين، أو تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة‏.‏ وبياض الوجوه وسوادها كِنَايتَان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف فيه، وقيل‏:‏ يُوسَم أهل الحق ببياض الوجوه والصحيفة وإشراق البشرة وسعي النور بين يديه وبيمينه، وأهل الباطل بأضداد ذلك‏.‏ ‏{‏فأما الذين اسودت وجوههم‏}‏ فيقال لهم يومئذ‏:‏ ‏{‏أكفرتم‏}‏ بمحمد- عليه الصلاة والسلام- بعد ظهوره، ‏{‏بعد إيمانكم‏}‏ به قبل ظهوره، وهم اليهود أو أهل الردة، آمنوا في حياته صلى الله عليه وسلم وكفروا بعد موته‏.‏ أو جميع الكفار، آمنوا في عالم الذر وأقروا على أنفسهم، ثم كفروا في عالم الشهادة، ويقال لهم أيضاً‏:‏ ‏{‏ذوقوا العذاب‏}‏ بسبب ما كنتم ‏{‏تكفرون‏}‏‏.‏

‏{‏وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله‏}‏ أي‏:‏ جَنته، ‏{‏هم فيها خالدون‏}‏‏.‏ وعبَّر بالرحمة عن الجنة؛ تنبيهاً على أن المؤمن، وإنْ استغرق عمره في طاعة الله- تعالى-، لا يدخل الجنة إلا برحمة الله وفضله، وكان حق الترتيب أن يقدم حِلية المؤمنين لتقدُّم ذكرهم، لكن قصد أن يكون مطلعُ الكلام ومقطعُه حليةَ المؤمنين وثوابهم‏.‏

‏{‏تلك آيات الله‏}‏ الواردة في وَعْده وَوَعِيدِه، ‏{‏نتلوها عليك‏}‏ متلبسة ‏{‏بالحق‏}‏ لا شبهة فيها، فقد أعذر وأنذر، ‏{‏وما الله يريد ظلماً للعالمين‏}‏؛ إذ لا يحق عليه شيء فيظلم بنقصه، ولا يُمنع من شيء فيظلم بفعله، كما بيَّنه بقوله‏:‏ ‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ ملكاً وخلقاً وعبيداً، فيجازي كلا بما وَعَدَه، وأوْعَدَه، ‏{‏وإلى الله ترجع الأمور‏}‏ كلها؛ فيتصرف على وفْقِ مراده وسَابق مشيئته،

‏{‏لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبيَاء‏:‏ 23‏]‏‏.‏

الإشارة‏:‏ قد نهى الله- تعالى- أهل الجمع عن التشبه بأهل الفرق، في اختلاف قلوبهم ووجوههم وآرائهم وأنظارهم، من بعد ما جاءتهم الدلائل الواضحات على طلب جمع القلب على الله، والتودد في الله، وصرف النظرة في شهود الله، وأولئك المفترقون لهم عذاب عظيم، وأيّ عذاب أعظم من الحجاب‏؟‏ يوم تبيض وجوه العارفين، فتكون كالشمس الضاحية، يسرحون في الجنان حيث شاءوا، وتسود وجوه الجاهلين؛ لما يعتريها من الندم، وسوادها باعتبار وجوه العارفين في النقص عنها، وإن كانت مُبْيَضَّةً بنور الإيمان، لكن فاتهم نور الإحسان، فيقال‏:‏ أكفرتم بالخصوصية في زمانكم، بعد إيمانكم بها فيمن سلف قبلكم‏؟‏ فذوقوا عذاب القطيعة عن شهود الحبيب في كل حين، وأما الذين ابيضت وجوههم وأشرقت بنور البقاء، ففي رحمة الله، أي‏:‏ جنة المعارف ‏{‏فِى مَقْعَدٍ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر‏}‏ ‏[‏القَمَر‏:‏ 55‏]‏، فقد اتضحت الطريق، وظهرت أعلام التحقيق، لكن الهداية بيد الله، كما أنَّ الأمور كلها بيده، يهدي مَن يشاء ويضل من يشاء، ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَمٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏فُصّلَت‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 112‏]‏

‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏110‏)‏ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏111‏)‏ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏كان‏}‏‏:‏ على بابها من الدلالة على المُضِيِّ، أي‏:‏ كنتم في اللوح المحفوظ، أو في علم الله، أو فيما بين الأمم المتقدمة، أو‏:‏ صلة، أي‏:‏ أنتم خير أمة، و‏{‏للناس‏}‏‏:‏ يتعلق بأخرجت، أو بكنتم، أي‏:‏ كنتم خير الناس للناس‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏كنتم‏}‏ في سابق علمي ‏{‏خير أمة‏}‏ ظهرت ‏{‏للناس‏}‏ تجيئون بهم إلى الجنة بالسلاسل‏.‏ ثم بيَّن وجه فضلهم فقال‏:‏ ‏{‏تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله‏}‏ وبجميع ما يجب الإيمان به‏.‏

وقد ورد في مدح هذه الأمة المحمدية أحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «حُرِّمتْ الجنةُ على الأنبياء حتى أدخلها أنا، وحُرّمتْ الجنة على الأُمَمِ حتى تدخلها أمتي» ومنها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمتي أمةٌ مَرْحُومَةٌ، إذَا كَانَ يَوْمُ القِيامةِ أَعطى الله كُلَّ رَجُلٍ مِن هذه الأمة رجُلاً فيقال‏:‏ هذَا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ»‏.‏

وعن أنس قال‏:‏ «خرجت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا صوت يجيء من شِعْبِ، فقال‏:‏ يا أنس‏:‏ قُمْ فانظرْ ما هذا الصوت، فانطلقت فإذا برجلٍ يُصلّي إلى شجرة، ويقول‏:‏ اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الأمة المرحومة، المغفور لها، المستجاب لها، المتاب عليها، فأتيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال‏:‏ انطلق، فقل له‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام، ويقول لك‏:‏ من أنت‏؟‏ فأتيت، فأعلمته ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ اقرأ مني السلام على رسول الله صلى لله عليه وسلم، وقل له‏:‏ أخوك الخضر يقول لك‏:‏ ادع الله أن يجعلني من أمتك المرحومة المغفور لها»‏.‏ وقيل لعيسى ابن مريم‏:‏ هل بعد هذه الأمة أمة‏؟‏ قال‏:‏ نعم، أمة أحمد‏.‏ قيل‏:‏ وما أمة أحمد‏؟‏ قال‏:‏ علماء، حكماء، أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون باليسير من الرزق، ويرضى الله عنهم باليسير من العمل، يدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله‏.‏ ه‏.‏

وليس أولها أولى بالمدح من آخرها، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أُمتي كالمَطَرِ، لا يُدْرَى أولهُ خيرٌ أو آخرُه» ‏؟‏ وفي خبر آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «اشتقْتُ إلى إخواني، فقال أصحابُه‏:‏ نحتن إخوانُك يا رسول الله، فقال أنتم أصْحَابي، إخْواني‏:‏ ناس يأتُون بعدي، يُؤمنون بي ولم يَرَوْنِي، يَوَدُّ أحدُهم لو يَرَاني بجميع ما يَمْلِكُ‏.‏ يَعْدِلُ عملُ أحدهم سبعين منكم‏.‏ قالوا‏:‏ مِنْهم يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ منكم‏.‏ قالوا‏:‏ ولِمَ ذلك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ لأنكم وَجَدْتُم على الخير أعْواناً، وهم لا يَجِدُوا عليه أعواناً» أو كما قال- عليه الصلاة والسلام-‏.‏

قلت‏:‏ التفضيل باعتبار أجور الأعمال، وأما باعتبار اليقين والمعرفة، فالصحابة أفضل الخلق بعد الأنبياء- عليهم السلام- ويدل على هذا قوله- عليه الصلاة والسلام- «يعدل عمل أحدهم»، ولم يقل إيمان أحدهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ كنتم يا معرش الصوفية خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالجمع على الله والغيبة عما سواه، وتنهونَ عن كلِّ ما يُبعد عن الله ويفرق العبدَ عن مولاه، وتؤمنون بالله وبما وعد به الله، إيمان الشهود والعيان، الذي هو مقام الإحسان‏.‏ قال القشيري في رسالته‏:‏ ‏(‏قد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضَّلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه‏)‏‏.‏

وقال الجنيد رضي الله عنه‏:‏ لو نعلم أن تحت أديمِ السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا، لسعيت إليه ولو حبواً‏.‏ ه‏.‏ وكان كثيراً ما ينشد‏:‏

عِلْمُ التصوفِ عِلمٌ ليس يَعْرِفُهُ *** إلاَّ أَخْو فِطْنَةِ بِالحقِّ معروفُ

وليسَ يُبْصِرهُ مَنْ ليس يَشْهدهُ *** وكيفَ يَشْهَدُ ضوءَ الشمس مكفوفُ

وقال الشيخ الصقلي‏:‏ ‏(‏كلُّ من صدَّقَ بهذا العلم فهو من الخاصة، وكل من فهمه فهو من خاصة الخاصة، وكل من عبّر به وتكلم فيه فهو من النجم الذي لا يُدرك والبحر الذي لا ينزف‏)‏‏.‏ وقال في الإحياء- لمَّا تكلم على معرفة الله والعلم بالله، قال‏:‏ ‏(‏والرتبةُ العليا في ذلك للأنبياء، ثم للأولياء العارفين، ثم للعماء الراسخين، ثم للصالحين‏)‏‏.‏ فقد قدَّم الأولياء على العلماء‏.‏ قال ابن رشد‏:‏ وما قاله القشيري والغزالي متفق عليه‏.‏ قال‏:‏ ولا يشكُّ عاقلٌ أنَّ العارفين بالله وما يجب له من الكمال، أفضل من العارفين بأحكام الله‏.‏ انظر تمامه في المعيار‏.‏ وقال في المباحث‏:‏

حُجَّةُ من يُرَجِّعُ الصُوفية *** على سواهم حُجَّةٌ قويَّة

هُمْ أَتْبَعُ النَّاسِ لخيرِ النَّاس *** مِنْ سَائِرِ الأَنَامِ والأُنَاس

ثم قال‏:‏

ثُمَّ بِشَيْئَيْنِ تقومُ الحُجَّه *** أنَّهمْ قَطْعاً على المَحَجَّه

وَمَأ أَتَوْا فيه بخَرْقِ الْعَادَه *** إذْ لمْ تَكُنْ لِمَنْ سِوَاهُم عَادَه

قَدْ رَفَضُوا الآثَامَ والعُيوب *** وطَهَّرُوا الأبدَانَ والقُلُوب

وَبَلَغُوا حقيقَةَ الإيمَان *** وانْتَهَجُوا منَاهِجَ الإحْسَان

ثم دعا أهل الكتاب إلى الإيمان، وهوَّن أمرهم، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ‏}‏

قلت‏:‏ الاستثناء في قوله ‏{‏إلا بحبل‏}‏‏:‏ من أعم الأحوال، أي‏:‏ ضربت عليهم الذلة في جميع الأحوال، إلا متلبسين بذمة من الله وذمة من الناس‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولو آمن أهل الكتاب‏}‏ إيماناً كإيمانكم، ‏{‏لكان خيراً لهم‏}‏ مما هم عليه‏.‏

وليس أهل الكتاب سواء، بل ‏{‏منهم المؤمنين‏}‏ كعبد الله بن سلام وأصحابه، ‏{‏وأكثرهم الفاسقون‏}‏ المتمردون في الكفر والفسوق، فلا يهولكم أمرهم، فإنهم ‏{‏لن يضروكم‏}‏ إلا ضرراً يسيراً؛ كأذى باللسان من عيب وسب وتحريش بينكم، ولا قدرة لهم على القتال، ‏{‏وإن يقاتلوكم‏}‏ ينهزموا، و‏{‏يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون‏}‏ أبداً عليكم‏.‏

وهذه الآية من المُغيبات التي وافقها الواقع، إذ كان كذلك في بني قريظة والنضير وبني قينقاع وخيبر، فلم تُرْفع لهم راية أبداً، بل ‏{‏ضُربت عليهم الذلة‏}‏ والخزي والهوان، أي‏:‏ أحاطت بهم إحاطة البيت المضروب على أهله، أو لزمتهم لزوم الدرهم المضروب لضربه، فلا تنفك عنهم ‏{‏أيم ما ثقفوا‏}‏ ووُجدوا، فلا يأمنون ‏{‏إلا بحبل من الله‏}‏ أي‏:‏ بسبب عهد من الله، وهو عقد الذمة التي أمر الله بها، إذا أدوا الجزية للمسلمين، فلهم حرمة بسبب هذا العقد، فلا يجوز التعرض لهم في مال ولا دم ولا أهل، ‏{‏وحبل من الناس‏}‏، وهو عقد الذمة التي يعقدها مع الكفار إذا كانوا تحت ذمتهم‏.‏ والحاصل أن الذلة لازمة لهم فلا يأمنون إلا تحت الذمة، إما من المسلمين وإما من الكفار‏.‏ ‏{‏وباءوا بغضب من الله‏}‏ أي‏:‏ انقلبوا به مستحقين له، ‏{‏وضربت عليهم المسكنة‏}‏ أي‏:‏ أحاطت بهم، فاليهود في الغالب فقراء مساكين، لأن قلوبهم خاوية من اليقين، فالفقر والجزع لازم لهم، ولو ملكوا الدنيا بأجمعها‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ الذل والمسكنة والبواء بالغضب بسبب أنهم ‏{‏كانوا يكفرون بآيات الله‏}‏ المنزلة على رسوله، أو الدالة على توحيده، ‏{‏ويقتلون الأنبياء بغير حق‏}‏ بل ظلماً وعدواناً، ذلك الكفر بسبب عصاينهم واعتدائهم حدود الله، فإن الإصرار على الصغائر يُفضي إلى الكبائر، والإصرار عل الكبائر يؤدي إلى الكفر؛ لأن المعاصي بريد الكفر، والعياذ بالله‏.‏

الإشارة‏:‏ ولو آمن أهل الظاهر بطريق الخصوص، وحطو رؤوسهم لأهل الخصوصية لكان خيراً لهم، للتسع عليهم دائرة العلوم، وتفتح لهم مخازن الفهوم، منهم من يقر بوجود الخصوصية، ويعجز عن حمل شروطها، وأكثرهم ينكرونها ويحتجون لأنفسهم بقول من قال‏:‏ انقطعت التربية في القرن الثامن، فيموتون مصرين على الإنكار والعصيان، فلن يضركم إنكارهم أيها الفقراء، فإنهم لا قدرة لهم عليكم، للرعاية التي أحاطت بكم، إلا أذى بلسانهم، وعلى تقدير لحوق ضررهم في الظاهر، فإن الله يُغيِّبْ ألمّ ذلك عنكم في الباطن، كما شاهدناه من بعض الفقراء، وإن يُهددوكم بالقتل والجلاء، فإن الله لا يَنْصُرُهم في الغالب‏.‏

قلت‏:‏ وقد هددونا بالضرب والرفع إلى السلطان والجلاء إلى برِّ النصارى، فلم يقدروا على شيء من ذلك، وقد وقع ذلك لبعض الصوفية زيادةً في شرفهم وعزّهم، فالمنكر على الصوفية لا يزال في هَمٍّ وغمٍّ وذُلٍّ ومسكنة، لخراب باطنه من نور اليقين‏.‏ فإنَّ الانتقاد على الأولياء جناية واعتقادهم عناية، فإن استمر على أذاهم كان عاقبته سوء الخاتمة، فيبوء بغضب من الله سبب اعتدائه على أولياء الله، «ومن آذى لي وليّاً فقد أذن بالحرب» رزقنا الله الأدب معهم، وأماتنا على محبتهم، آمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 115‏]‏

‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ‏(‏113‏)‏ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏114‏)‏ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏قائمة‏}‏ أي‏:‏ مستقيمة، من أقمت العود فقام، أو قائمة بأمر الله‏.‏ و‏{‏آناء الليل‏}‏‏:‏ ظرف‏:‏ واحده‏:‏ ‏{‏إِنْيٌ‏}‏، بكسر الهمة وسكون النون، كنحى وأنحاء، أو ‏{‏إني‏}‏، كمِعىً وأمعاء، و‏{‏لن تكفروه‏}‏ أي‏:‏ لن تحرموه، وعدي ‏{‏كفر‏}‏ إلى مفعولين لتضمنه معنى حرم أو منع‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ليس أهل الكتاب ‏{‏سواء‏}‏ في الكفر والعدوان، بل منهم ‏{‏أمة‏}‏ أي‏:‏ طائفة ‏{‏قائمة‏}‏ بالعدل مستقيمة في الدين، أو قائمة بأمر الله، أو قائمة في الصلاة ‏{‏يتلون آيات الله‏}‏ في تهجدهم ‏{‏آناء الليل‏}‏ أي‏:‏ في ساعاته، ‏{‏وهم يسجدون‏}‏ في صلاتهم، أو في صلاة العشاء، لأن أهل الكتاب لا يصلونها، لِمَا رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم أخَّرها، ثم خَرَج، فإذا الناسُ يَنْتَظُرونَها، فقال‏:‏ «أبشروا؛ فَإِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْل الأَرض أحدٌ يُصَلِّي في هَذِهِ السّاعَةِ غَيْرُكُم»‏.‏

ثم وصفهم بالإيمان فقال‏:‏ ‏{‏يؤمنون بالله واليوم الآخرة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات‏}‏، وهو عبد الله بن سلام وأصحابه ممن أسلم من اليهود، فقد وصفهم الله تعالى بخصائص لم توجد في اليهود، فإنهم منحرفون عن الحق غير متعبدين، مشركون بالله ملحدون في صفاته، يصفون اليوم الآخر بغير صفاته، مداهنون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، متباطئون عن الخيرات، بخلاف ما وصف به من أسلم منهم، ‏{‏وأولئك‏}‏ الموصوفون بتلك الصفات ‏{‏من الصالحين‏}‏ أي‏:‏ ممن صلحت أحوالهم عند الله، واستوجبوا رضاءه وثناءه، وهذه عادة الله مع خلقه، من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً‏.‏ ولذلك قال‏:‏ ‏{‏وما يفعلوا من خير فلن يُكفروه‏}‏ أي‏:‏ فلن تحرموا ثوابه‏.‏ ولن تجحدوا جزاءه، بل يشكره لكم ويجزيكم عليه، سَمى الحرمان كفراناً كما سمى العطاء شكراً‏.‏ ‏{‏والله عليهم بالمتقين‏}‏؛ فلا يخفى عليه مقاماتهم في التقوى، وفيه إشعار بأن التقوى مبدأ الخير وأحسن الأعمال، وأن الفائزين عند الله هم أهل التقوى‏.‏ رزقنا الله منها الحظ الأوفر بمنِّه‏.‏ آمين‏.‏

الإشارة‏:‏ ليس أهل العلم سواء، بل منهم من جعله شبكةً يصطاد به الدنيا، يبيع دينه بعرض قليل، وهم علماء السوء وقضاة الجور، ومنهم من قرأه لله وعلَّمه لله، فأفنى عُمره في تعليمه وتقييده، ومنهم من صرف همته إلى جمعه وتأليفه، ومنهم من صرف همته إلى العمل به فالتحق بالعباد والزُّهاد، ‏{‏يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون‏}‏ ومنهم من حرره وحققه، ثم توجه إلى علم الباطن وصحب العارفين، فكان من المقربين، فهؤلاء كلهم ‏{‏يسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين‏}‏، فيقال لهم‏:‏ ‏{‏وما يفعلوا من خير فلن يُكفره والله عليم بالمتقين‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏116‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ وجحدوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ‏{‏لن تغني عنهم أموالهم ولا أولاهم من‏}‏ عذاب ‏{‏الله شيئاً‏}‏ ‏{‏وأولئك أصحاب النار‏}‏ أي‏:‏ مُلاَزِمُوها، كَمُلاَزَمَةِ الرجل لصاحبة، ‏{‏هم فيها خالدون‏}‏‏.‏

الإشارة‏:‏ إن الذين كفروا بالخصوصية عند أهل زمانهم، وفاتهم اقتباس أنوارهم، لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا علومهم مما فاتهم من معرفة الله شيئاً، ماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَ الله‏؟‏ وماذا فقد من وجد الله‏؟‏‏!‏ قال الشاعر‏:‏

لِكُلِّ شيء إذا فارقته عِوَضٌ *** وليسَ للّهِ إنْ فارقت مِنْ عِوَضِ

ولا طريق لمعرفة الحق المعرفة الخاصة- أعني معرفة العيان- إلا صحبة أهل الشهود والعيان، فكلُّ من أنكرهم كان غايته الحرمان، ولزمته البطالة والخذلان، وجَرَّب، ففي التجريب علم الحقائق، ومن حُرم صحبتهم لا ينفك عن نار القطيعة وعذاب الحجاب، وعنت الحرص والتعب، عائذاً بالله من ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ في الكلام حذف، أي‏:‏ مثل تلف ما ينفقون كمثل إتلاف ربح‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، و‏{‏الصر‏}‏‏:‏ البرد الشديد، أو ريح فيها صوت وبرد، أو السموم الحارة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ مثل ما يُنفق الكفار، قربة أو مفاخرة وسمعة، أو ما ينفق سفلة اليهود على أحبارهم، أو المنافقون؛ رياء وخوفاً، ‏{‏كمثل ريح‏}‏ فيها برد شديد ‏{‏أصابت حرث قوم‏}‏ أي‏:‏ زرعهم، فأتلفته وأهلكته، والمراد‏:‏ تشبيه نفقتهم وأعمالهم في تلفه وضياعه وعدم الانتفاع به، بحرث كفار، ضربته ريح فيها برد فاجتاحته، فأصبح صعيداً زلقاً، ولم تبق فيه منفعة في الدنيا والآخرة، ‏{‏وما ظلمهم الله‏}‏ بأن ضيع أعمالهم من غير سبب، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكاب الكفر الذي أحبط أعمالهم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من لم يحقق مقام الإخلاص، ولم يصحب أهل التخليص والاختصاص، لا تنفك أعماله من علل، ولا أحواله من دخل، فأعماله فارغة خفيفة، أقل ريح تقلعها وتسقطها عن درجة الاعتبار، وما زالت العامة تقول‏:‏ الصحيح يصح، والخاوي يدريه الريح‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 120‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏118‏)‏ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏119‏)‏ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ بطانة الرجل‏:‏ خواصه الذين يطلعهم على باطنه وسره، وسميت بطانة؛ تشبيهاً لها بالثوب الذي يلي بطنه كالشعار‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الأَنْصَارَ شِعَارٌ والنَّاسُ دِثَارٌ» وهي اسم تطلق على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث‏.‏ والألو‏:‏ التقصير، وأصله‏:‏ أن يتعدى بالحرف، تقول‏:‏ لا آلو في نصحك؛ أي‏:‏ لا أقصر فيه‏.‏ ثم عدي إلى مفعولين، كقولهم‏:‏ لا آلوك نصحاً، على تضمن معنى المنع أو النقص‏.‏ والخبال‏:‏ الفساد‏.‏

و ‏{‏ما عنتم‏}‏‏:‏ مصدرية، والعنت‏:‏ التعب والمشقة، والأنامل‏:‏ جمع أنملة- بضم الميم وفتحها-، والضير والضر واحد‏.‏ ومضارع الأول‏:‏ يضير، والثاني‏:‏ يضر، وهو هنا مجزوم، وأصله‏:‏ يضرُركم، نقلت حركة الراء إلى الضاد، وضمت الراء، إتباعاً لحركة الضاد طلباً للمشاكلة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة‏}‏ أي‏:‏ أصدقاء وأصفياء، تطلعونهم على سركم، وهم ‏{‏من دونكم‏}‏ ليسوا على دينكم، فإنهم ‏{‏لا يألونكم خبالاً‏}‏ أي‏:‏ لا يقصرون جهدَهم في إدخال الفساد بينكم بالتخليط والنميمة وإطلاع الكفار على عورتكم‏.‏ نزلت في رجال من المسلمين، كانوا يصلون رجالاً من اليهود؛ لما كان بينهم من القرابة والصداقة، أو في المنافقين؛ كان يصلهم بعض المسلمين‏.‏

ثم وصفهم بأوصاف توجب التنفير منهم فقال‏:‏ ‏{‏ودوا ما عنتم‏}‏ أي‏:‏ تمنوا عنتكم وهلاككم وضلالكم، ‏{‏قد بدت البغضاء من أفواههم‏}‏ أي‏:‏ ظهرت أمارة العداوة من أفواههم بالوقيعة في المسلمين، أو بإطلاع المشركين على عوراتهم، أو في كلامهم مع المسلمين بالغيظ، لأنهم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم، ‏{‏وما تخفي صدورهم‏}‏ من العداوة والبغضاء، ‏{‏أكبر‏}‏ مما أظهره، لأن ظهوره منهم ليس عن روية واختيار، بل من غلبة غيظ واضطرار‏.‏ ‏{‏قد بيّنَا لكم‏}‏ أيها المؤمنون ‏{‏الآيات‏}‏ الدالة على مجانبة الكافرين ومولاة المؤمنين، ‏{‏إن كنتم تعلقون‏}‏ ما يُبين لكم‏.‏

‏{‏هأنتم‏}‏ يا هؤلاء المخاطبين ‏{‏تحبونهم‏}‏ لما بينكم من المصاهرة والصداقة، ‏{‏ولا يحبونكم‏}‏ لما بينكم من مخالفة الدين، أو تريدون لهم الإسلام وهم يريدون لكم الكفر، وأنتم ‏{‏تؤمنون بالكتاب‏}‏ أي‏:‏ بجنس الكتب، ‏{‏كله‏}‏ أي‏:‏ بالكتب كلها، وهم لا يؤمنون بكتابكم، فكيف تحبونهم وهم يكذبون كتابكم ورسولكم‏؟‏ وهم أيضاً ينافقونكم؛ ‏{‏إذَا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا‏}‏ مع أنفسهم ‏{‏عضوا عليكم الأنامل من الغيظ‏}‏ لما يرون من ائتلاف المؤمنين، ولم يجدوا سبيلاً إلى التشفي فيكم، وهذه كناية عن شدة حقدهم، وإن لم يكن ثَمَّ عض في الخارج‏.‏

قال لهم الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏موتوا بغيظكم‏}‏؛ فإنما ضرر غيظكم عليكم، أو دوموا على غيظكم حتى تموتوا عليه، فإن مادة الإسلام لا تزال تنمو حتى تهلكوا، ‏{‏إن الله عليم بذات الصدور‏}‏ أي‏:‏ بحقيقة ما في قلوبكم من البغضاء والحَنَقَ، أو بما في القلوب من خير أو شر‏.‏

هو من مقول الرسول لهم، أو من كلام الله تعالى، استئناف، أي‏:‏ لا تعجب من إطلاعي إياك على أسرارهم، فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم‏.‏

ومن فرط عداوتهم أنهم ‏{‏إن تمسسكم حسنة‏}‏ كنصر وغنيمة ‏{‏تسوءهم‏}‏ أي، تحزنهم، ‏{‏وإن تصبكم سيئة‏}‏ كهزيمة أو قتل أو إصابة عدو منكم او اختلاف بينكم، ‏{‏يفرحوا بها وإن تصبروا‏}‏ على عداوتهم وأذاهم، وتخافوا ربكم، ‏{‏وتتقوا‏}‏ ما نهاكم عنه، ‏{‏لا يضركم كيدهم شيئاً‏}‏، بفضل الله وحفظه، الموعود للصابرين والمتقين، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 153‏]‏، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 128‏]‏‏.‏ ومن كان الحق معه لا يضره شيء، ‏{‏إن الله بما يعملون محيط‏}‏؛ لا يخفى عليه ما يعمل أهل الكفر من العداوة والحقد، فيجازيهم عليه‏.‏

الإشارة‏:‏ لا ينبغي لأهل الخصوصية أن يتخذوا بطانة من دونهم من العامة حتى يطلعوهم على سرهم، فإن الإطلاع على السر، ولو كان غير الخصوصية، كله ضعف في العقل ووهن في الرأي، وفي ذلك يقول القائل‏:‏

من أطْلَعَ الناسَ على سره *** استحقَّ الكيَّ على جَبْهَتِه

وأما سر الربوبية فإفشاؤه لغير أهله حرام، والعامة مضادون لأهل الخصوصية، لا يألونهم خبالاً في قلوبهم وتشتيتاً لفكرتهم، إذا صحبوهم يودون أن لو كانوا مثلهم في العنت وتعب الأسباب، فإذا ظهر بالفقراء نقص أو خلل ظهرت البغضاء من أفواههم، وما تحفى صدورهم أكبر، فإن كنتم أيها الفقراء تحبون لهم الخير فإنهم بعكس ذلك، وإن كنتم تقرون شريعتهم فإنهم لا يؤمنون بحقيقتكم، بل ينكرونها عليكم، ومنهم من يتصف بالنفاق، إذا لقي أهل الخصوصية أظهر التصديق والمحبة، وإذا خلا مع العامة أظهر العداوة والحَنَق، وإن تمسسكم أيها الفقراء حسنة، كعز وفتح وشهود ومعرفة تَسؤْهم، وإن تصبكم سيئة؛ كمحنة أو بلية، يفرحوا بها، وإن تصبروا على أذاهم وجفوتهم، وتتقوا شهود السوى فيهم، لا يضركم كيدهم شيئاً؛ ‏{‏إن الله بما يعملون محيط‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 122‏]‏

‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏121‏)‏ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ واذكر يا محمد حين ‏{‏غدوت من أهلك‏}‏ من منزل عائشة، الذي نَزَلْتَ فيه بأحد، حين خرجت بها، حال كونك ‏{‏تبوئ المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ تهيئ لهم، ‏{‏مقاعد للقتال‏}‏ أي‏:‏ مواقف وأماكن يقفون فيها للحرب ‏{‏والله سميع‏}‏ لأقوالكم، ‏{‏عليم‏}‏ بإخلاصكم‏.‏

قال الواقدي‏:‏ خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة- رضي الله عنها- ماشياً على رجليه إلى أُحد، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح‏.‏ أن رأى صدراً خارجاً، قال‏:‏ تأخر‏.‏ وذلك أن المشركين نزلوا بأحد، يوم الأربعاء، فلما سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه، ودعا عبد الله بن أُبي بن سلول- ولم يدْعُه قط قبلها- فاستشاره، فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار‏:‏ يا رسول الله؛ أَقِمْ بالمدينة ولا تخرجْ إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخل علينا إلا أصابنا منه، فكيف وأنت فينا‏!‏ فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خاسئين‏.‏ فأعجب النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الرأي، وقال بعض أصحابه، يا رسول الله؛ اخرج بنا إلى هذه الأكْلُب، لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم وضعفنا‏.‏ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إِنِّي رأيتُ في منامِي بَقَراً تذبح، فأولتها ناساً من أصحابي يُقتلون، ورأيت في ذُبابِ سَيْفي ثلماً، فأولتها هزيمةً، ورأيت أني أدخل يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة‏.‏ فإن رأيتُمْ أن تُقيموا بالمدينة وتَدَعُوهُمء فافعلوا» فقال رجال ممن فاتهم بدر، وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد‏:‏ اخرج بنا إلى أعدائنا، وبالغوا، حتى دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم ولبس لأمته‏.‏ فلما رأوه قد لبس سلاحه ندموا، وقالوا‏:‏ بئس ما صنعنا، نشير على النبيّ صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه، فقاموا واعتذروا إليه‏.‏ وقالوا‏:‏ اصنع ما رأيتَ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يَنْبَغِي لنَبِي أَنْ يلبَس لأمَتَهُ فيَضَعَهَا حتَى يُقاتِلَ»‏.‏

فخرج بعد صلاة الجمعة، وأصبح بشعب من أُحُد، يوم السبت للنصف من شوال، سنة ثلاث من الهجرة، ونزل في عدوة من الوادي، وجعله ظهره وعسكره إلى أحد، وسوى صفهم كما تقدم، وأمَّرَ عبد الله بن جبير على الرماة، وقال‏:‏ انضحوا عنا بالنبل، لا يأتونا من خلقنا، فكان من أمر الله ما كان، على ما يأتي‏.‏

وخرج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد زهاء ألف، ووعدهم النصر إن صبروا، فلما بلغوا الشواط- موضع- انخزل ابنُ أُبيّ في ثلاثمائة، وقال‏:‏ علام نقتل أنفسنا‏!‏ فتبعهم أبو جابر السلمي، فقال‏:‏ أُنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم‏.‏

فقال ابن أُبيّ‏:‏ لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وهمت بنو حارثة وبنو سلمة بالانصراف معه، فثبتوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرهم نعمته بقوله‏:‏ ‏{‏إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما‏}‏ وناصرهما، حيث عصمهما من اتباع المنافقين، قال جابر‏:‏ ‏(‏ما يسرنا أنها لم تنزل، لقوله‏:‏ ‏{‏والله وليهما‏}‏‏)‏ فبنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، ‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏ لا على غيره، إذ لا ناصر غيره‏.‏

الإشارة‏:‏ من شأن شيوخ التربية أن يَدُلُّوا المريدين على محاربة النفوس ومقاتلتها، ويطلعوهم على دسائسها ومخادعتها، ليهيئوا لهم بذلك مقاعد لقتالها، والله مطلع على إخلاصهم ونياتهم، فمنهم من يمل ويكل، فيرجع إلى وطن عوائده، ومنهم من يصبر حتى يفوز بالغنيمة العظمى والسعادة القصوى، وفي ذلك يقول القائل‏:‏

وبَالَغَوا في الجدِّ حتى مَلَّ أكثرهُم *** وعَانَقَ المجْدَ مَنْ وَافَى ومَنْ صَبَرَا

قال بعضهم‏:‏ انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا‏.‏ ه‏.‏ ومنهم من يلحقه الملل والفشل فيهم بالانصراف والرجوع، ثم يثبته الله تعالى وينصره، فيلحق بالصابرين السابقين، وعمدة المريد في مجاهدة نفسه‏:‏ التوكل على الله والاعتماد عليه دون شيء سواه؛ «من علامة النجح في النهايات‏:‏ الرجوع إلى الله في البدايات»‏.‏ ‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏بدر‏}‏‏:‏ بئر بين مكة والمدينة، كانت لرجل اسمه بدر، فسميت باسم صاحبها، وقعت فيها الغزوة التي نصر الله فيها رسوله صلى الله عليه وسلم، فسميت الغزوة باسم المكان، وجملة‏:‏ ‏{‏وأنتم أذلة‏}‏‏:‏ حال من الكاف، و‏{‏أذلة‏}‏‏:‏ جمع ذليل، كأعزة، جمع عزيز‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد نصركم الله‏}‏ في وقعة بدر ‏{‏وأنتم أذلة‏}‏ ليس معكم مراكب ولا كثرة سلاح، مع قوة عدوكم بالعُدة والعدد، ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ وأثبتو مع رسوله، وانتظروا النصر من الله كما عودكم، ‏{‏لعلكم‏}‏ تكونون شاكرين، لما أنعم به عليكم من العز والنصر، فيزيدكم منه كما وعدكم‏.‏

الإشارة‏:‏ جعل الله سبحانه وتعالى الأِياء كامنة في أضدادها، فمن أراد العز والنصر فليتحقق بالذل والمسكنة، ومن أراد الغنى فليتحقق بالفقر، ومن أراد الرفعة فليتحقق بالضعة وإسقاط المنزلة، ومن أراد القوة فليتحقق فالضعف، وهكذا‏:‏ ‏{‏تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه‏}‏‏.‏ فاتقوا الله يا معشر المريدين، واطلبوا الأشياء في أضدادها لتظفروا بها، واشكروا الله على ما أولاكم يزدكم من فضله ونواله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124- 125‏]‏

‏{‏إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ‏(‏124‏)‏ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إذا‏}‏‏:‏ ظرف لنصركم، إذا قلنا‏:‏ إن الإمداد يوم بدر فقط، أو بدل من ‏{‏إذ غدوت‏}‏، إذا قلنا‏:‏ كان الإمداد يوم أحد بشرط الصبر، فملا لم يصبروا لم يقع‏.‏ والتسويم‏:‏ التعليم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ولقد نصركم الله ببدر حين كنت ‏{‏تقول للمؤمنين‏}‏ حين رأوا كثرة عدوهم وقلة عدتهم وعددهم‏:‏ ‏{‏ألن يكفيكم‏}‏ في القوة والكثرة، ‏{‏أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة مُنزلين‏}‏ في السحاب‏؟‏ ‏{‏بلى‏}‏ يكفيكم كما وعدكم، ‏{‏إن تصبروا‏}‏ وتثبتوا ‏{‏وتتقوا‏}‏ الله ‏{‏ويأتوكم من فورهم‏}‏ أي‏:‏ من سرعتهم ‏{‏هذا‏}‏ الوقت، ‏{‏يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة‏}‏ بلا تراخ ولا تأخير، ‏{‏مسومين‏}‏ أي‏:‏ مُعَلَّمين بعمائم بيض إلا جبريل، فإنه كان عمامته صفراء‏.‏ أو معلمين أنفسَهم أو خيلَهم‏.‏ قيل‏:‏ كانت مجزوزة الأذناب، وقيل‏:‏ كانت بُلْقاً‏.‏

فإن قلت‏:‏ ما ذكر في الأنفال إلا ألفاً، هنا خمسة آلاف‏.‏ فالجواب‏:‏ أن الله تعالى أمدهم أولاً بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال معنا، ولا يقاتلون‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من توجَّه لجهاد نفسه في الله، واشتغل بذكر مولاه، أمده الله في الباطن بالأنوار والأسرار، وفي الظاهر بالملائكة الأبرار، وقد شوهد ذلك في الفقراء أصحابنا، إذا كانوا ثلاثة رآهم العامة ثلاثين، وإذاكانوا ثلاثين رأوهم ثلاثمائة، وقد كنا في سَفْره سبعين، فرأونا سبعمائة على ما أخبرونا به، ‏{‏وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 13‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 129‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏126‏)‏ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ‏(‏127‏)‏ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏128‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏129‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏‏:‏ جملة معترضة بين قوله‏:‏ ‏{‏أو يكبتهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أو يتوب عليهم‏}‏، أو تكون ‏{‏أو‏}‏ بمعنى ‏{‏إلا‏}‏، أي‏:‏ ليس لك من الأمر شيء، إلا أن يتوب عليهم فتبشرهم، أو يعذبهم فتشفى فيهم‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ وما جعل الله ذلك الإمداد إلا بشارة لكم بالنصر، ‏{‏ولتطمئن قلوبكم به‏}‏ فتثبتوا للقتال، ‏{‏وما النصر إلا من عند الله‏}‏ فهو قادر على أن ينصركم بلا واسطة، لكن أراد أن يثيبكم وينسب المزية إليكم، حيث قتلهم على أيديكم، فإن الله عزيز لا يغلب، حكيم فيما دبر وأبرم، وإنما نصركم يوم بدر ‏{‏ليقطع طرفاً من الذين كفروا‏}‏ بقتل بعض وأسر آخرين، فإنه قتل يومئذ سبعون، وأسر سبعون، ‏{‏أو يكبتهم‏}‏ أي‏:‏ يحزنهم ويغيظهم، والكبت‏:‏ شدة الغيظ، ‏{‏فينقلبوا خائبين‏}‏ مما أملوا‏.‏

ولما جُرِحَ- عليه الصلاة والسلام- في وجهه، وشُجَّ على قرن حاجبه، وكُسِرَت رباعيته، هَمَّ بالدعاء على الكفار، بل دعا عليهم، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏؛ إنما أنت رسول إليهم، مأمور بإنذارهم وجهادهم، وأمرهم بيد مالكم، إن شاء هداهم وإن شاء عذّبهم‏.‏ وإنما نهاه عن الدعاء عليهم؛ لعلمه بأن منهم من يُسلم ويجاهد في سبيل الله، وقد كان كذلك؛ فجُلَّهم أسلموا وجاهدوا، منهم خالد بن الوليد- سيف الله في أرضه‏.‏

ثم عطلف على قوله‏:‏ ‏{‏ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏أو يتوب عليهم‏}‏ إن أسلموا ‏{‏أو يعذبهم‏}‏ إن لم يسلموا، ‏{‏فإنهم ظالمون‏}‏ قد استحقوا العذاب بظلمهم، والأمور كلها بيد الله، ‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ خلقاً وملكاً وعبيداً، ‏{‏يغفر لمن يشاء‏}‏ غفرانه، ‏{‏ويعذب من يشاء‏}‏ تعذيبه، ولا يجب عليه شيء، ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ لعباده، فلا تبادر بالدعاء عليهم‏.‏

الإشارة‏:‏ وما جعل الله التأييد الذي ينزله على أهل التجريد، حين يقابلهم بالابتلاء والتشديد، إذا أراد أن يوصلهم لصفاء التوحيد، إلا بشارة لفتحهم، ولتطمئن بمعرفته قلوبهم، فإن الامتكان على قدر الامتحان، وكل محنة تزيد مكنة، وهذه سنة الله في أوليائه، يسلط عليهم الخلق في بدايتهم، ويشدد عليهم ابلاء، حتى إذا طهروا من البقايا، وكملت فيهم المزايا، كف عنهم الأذى، وانقلب الجلال جمالاً، وذلك اعتناء بهم، ونصراً لهم على أنفسهم، فإن النصر كله ‏{‏من عند الله العزيز الحكيم‏}‏‏.‏ وذلك ليقطع عنهم طرفاً من الشواغل والعلائق، التي تقبضهم عن العروج إلى سماء الحقائق، فإن الروح إذا رقدت في ظل العز والجاه صعب خروجها من هذا العالم، فإذا ضيق عليها، وعكس مرادها، رحلت إلى عالم الملكوت، والأمر كله بيد الله‏.‏ ليس لك أيها الفقير من الأمر شيء، إنما أنت مأمور بتحريك الأسباب والله يفتح الباب‏.‏

ليس لك أيها الشيخ من الأمر شيء، إنما أنت مذكر، وعلى الله البلاغ، فلا تأس على ما فاتك، ولا تفرح بما آتاك، فملكوت السماوات والأرض بيد الله، ‏{‏يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم‏}‏‏.‏

قال القشيري‏:‏ جرَّده- أي‏:‏ نبيه صلى الله عليه وسلم لما به عرفه عن كُلِّ غيْرٍ وسبب، حيث أخبره أنه ليس له من الأمر شيء، ثم قال‏:‏ ويقال‏:‏ أقامه في وقتٍ مقاماً؛ رمى بقبضة من التراب، فأصابت جميع الوجوه، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَ اللَّهَ رَمَى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏، وقال في وقت آخر‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 128‏]‏‏.‏ ه‏.‏

يشير إلى أنهما مقامان‏:‏ نيابة عن الله بالله، ونيابة الله عن عبده، والأول بقاء، والثاني فناء، قاله المحشي‏.‏ قتل‏:‏ الأول في مقام البسط، والثاني في مقام القبض، فقد قالوا‏:‏ إذا بسط فلا فاقة، وإذا قبض فلا طاعة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 134‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏130‏)‏ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏131‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏132‏)‏ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏133‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏134‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الكظم هو‏:‏ الكف والحبس، تقول‏:‏ كظمت القربة‏:‏ إذا ملأتها وسددت رأسها‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا‏}‏ وتزيدوا فيها إذا حلَّ الأجل ‏{‏أضعافاً مضاعفة‏}‏، ولعل التخصيص بحسب الواقع، إذ كان الرجل يَحُلُّ أجلُ دَيْنِهِ، فيقول للمدين‏:‏ إما أن تقضي وإما أن تزيد، فلا يزال يؤخره ويزيد في دينه حتى يستغرق مال المدين، فنُهوا عن ذلك‏.‏ ورغبهم في التقوى التي هي غنى الدارين‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فيما نهيتكم عنه، ‏{‏لعلك تفلحون‏}‏ في الدارين‏.‏ ثم خوفهم بالنار إن لم ينتهوا، فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا النار التي أعدت للكافرين‏}‏، وفيه إشعار بأن النار موجودة؛ إذ لا يُعدُّ المعدوم، وأنها بالذات معدة للكافرين، وبالعرض للعاصين‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ في الآية إشارة إلى أن النار لم تعد للمؤمنين، ولم تخلق لهم، ولكن خوفهم بها زجراً وعظة، كالأب البار المشفق على ولده يخوفه بالأسد والسيف، وهو لا يضربه بالسيف، ولا يلقيه إلى الأسد، فهذه الآية تلطف وشفقة على عباده‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وأطيعوا الله‏}‏ فيما أمر ونهى، ‏{‏والرسول‏}‏ فيما شرع وسَنَّ، ‏{‏لعلكم ترحمون‏}‏‏.‏ والتعبير بلعل وعيسى في أمثال هذه‏:‏ دليل على عون التوصل إلى ما جعل طريقاً له‏.‏

‏{‏وسارعوا‏}‏‏:‏ أي‏:‏ بادروا ‏{‏إلى مغفر من ربكم‏}‏؛ كالإسلام والتوبة والإخلاص، وسائر الطاعات التي توجب المغفرة، وقرأ نافع وابن عامر بغير واو على الاستئناف‏.‏ وسارعوا أيضاً إلى ‏{‏جنة عرضها السماوات والأرض‏}‏ لو وصل بعضها ببعض، وذكر العرض؛ للمباغلة في وصفها بالسعة؛ لأنه دون الطول‏.‏ قال بعضهم‏:‏ لم يُرد العَرض الذي هو ضد الطول، وإنما أراد عظمها، ومعناه‏:‏ كعرض السماوات السبع والأرضين السبع في ظنكم، أي‏:‏ لا تدرك ببيان‏.‏ ‏{‏أُعِدّت‏}‏ أي‏:‏ هُيِّئَتْ ‏{‏للمتقين‏}‏‏.‏ وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة، وأنها خارجة عن هذا العالم‏.‏

ثم وصف أهلها من المتقين بأوصاف الكمال، فقال‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون في السراء والضراء‏}‏ أي‏:‏ في حالتي الرخاء والشدة، وفي الأحوال كلها، كما هي حالة الأسخياء، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الجنَّةُ دَارُ الأسخياءِ» وقال أيضاً‏:‏ «السَّخيُّ قريب ٌ مِنَ اللهِ، قَرِيبٌ من الجنَّةِ، قَرِيبٌ منَ النَّاس، بعيدً من النَّارِ، والبَخيلُ بَعيدٌ من الله، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ، بَعِيدٌ، مِنَّ النَّاس، قرِيبٌ مِنَ النَّارِ، ولجَاهِلٌ سَخِيٌ أحبُّ إلى اللهِ مِنَ العالمِ البَخِيل» وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم‏:‏ «السّخَاء شَجَرةٌ في الجنة، أغصانُها في الدُّنيا، من تعلق بَغُصنٍ من أغْصَانِها قادَته إلى الجنَّةِ، والبخْلُ شَجرةٌ في النَّارِ، أغصَانُها في الدُّنيا، من تعلق ببعض من أغصانها قَادَته إلى النَّارِ»‏.‏

‏{‏والكاظمين الغيظ‏}‏ أي‏:‏ الكافين عن إمضائه مع القدرة عليه، قال عليه الصلاة والسلام «مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وهُوا يَقْدِرُ على إمْضَائِهِ؛ مَلأَ اللهُ قَلْبَهُ أمْناً وإِيمَاناً»‏.‏

وقال بعض الشعراء‏:‏

وَإذَا غَضِبْتَ فَكُنْ وَقُوراً كَاظِماً *** لِلْغَيْظِ، تُبْصر مَا تَقُولُ وتَسْمَعُ

فَكَفَى بِهِ شَرَفاً، تَصَبُّرُ سَاعَةٍ *** يَرْضَى بِهَا عَنْكَ الإلَهُ ويَرْفَعُ

‏{‏والعافين عن الناس‏}‏ أي‏:‏ عمن ظلمهم، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال عند ذلك‏:‏

«إنَّ هؤلاءِ في أُمتي قليلٌ، مَنْ عَصَمَ الله، وقد كَانُوا كثيراً في الأمم التي مَضَت» وعَنْ أبي هريرة‏:‏ أن أبا بكر كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في مجلس، فجاء رجل فوقع في أبي بكر، وهو ساكت، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يبتسم، ثم ردَّ أبو بكر بعضَ الرد، فغضب عليه الصلاة والسلام- وقام، فلحقه أبو بكر، وقال‏:‏ يا رسول الله، شتمني وأنت تبتسم، ثم رَدَدْتُ عليه بعضَ ما قال، فغضبتَ وقُمتَ‏.‏ قال‏:‏ «حين كنتَ ساكتاً كان معك مَلَكٌ يردُّ عليه، فما تكلمتَ وقع الشيطان، فلم أكُنْ لأقعدَ في مقعدْ فيه الشيطان، يا أبا بكر، ثلاثٌ حق‏:‏ تعلم أنه ليس عبد يظلم مظلمة فيعفو عنها إلا أعز الله بها نصره، وليس عبد يفتح باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله قلة، وليس عبد يفتح عطية أو صلة إلا زاده الله بها كثرة»‏.‏

‏{‏والله يحب المحسنين‏}‏ الذين أحسنوا فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم وبين عباد الله، و«أل»‏:‏ يحتمل أن تكون للجنس، فيعم كل محسن، أو للعهد، فتكون الإشارة إلى من تقدم ذكرهم‏.‏

الإشارة‏:‏ كل ما يُقوي مادة الحس فهو ربا؛ لأنه يربي الحسن ويقوي مادة الغفلة، فلا ينبغي لمريد أن يضاعفه ويتعاطى أسباب تكثيره، بل ينبغي أن يفر من موارده، وهي ثلاثة‏:‏ مباشرة الحس، أو الفكر فيه، أو الكلام مع أهله فيه‏.‏ والذي يقوي مادة المعنى ثلاثة‏:‏ صحبة أهل المعنى، والفكرة في المعاني، وذكر الله بالقلب‏.‏ واتقوا الله في مباشرة الحسن ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ بالوصول إلى صف المعاني، واتقوا نار القطيعة التي أعدت لمنكر الخصوصية، ‏{‏وأطيعوا الله والرسول‏}‏ فيما ندبكم إليه، ‏{‏لعلكم ترحمون‏}‏ بالوصول إلى صفة المعاني، واتقوا نار القطيعة التي أعدت لمنكر الخصوصية، ‏{‏وأطيعوا الله والرسول‏}‏ فيما ندبكم إليه، ‏{‏لعلكم ترحمون‏}‏ بإحياء قلوبكم وأرواحكم وأرواحكم بأسرار المعاني، وسارعوا إلى ما يوجب تغطية مساوءكم، حتى يغطي وصفكم بوصفه، ونعتكم بنعته، فيوصلكم بما منه إليكم، لا بما منكم إليه، فتدخلوا جنة المعارف، التي لا نهاية لفضاء شهودها، التي أعدت للمتقين السّوى، الذي يبذلون مهجهم وأموالهم في حال الجلال والجمال، ‏{‏والكاظمين الغيظ‏}‏؛ حيث ملكوا أنفسهم وأحوالهم، ‏{‏والعافين عن الناس‏}‏؛ لأن الصوفي ماله مباح ودمه هدر‏.‏ وكان بعض الصوفية يقول‏:‏ إذا أردت أن تعرف حال الفقير فأغضبه، وانظر إلى ما يخرج منه‏.‏

وقال شيخ شيوخنا رضي الله عنه‏:‏ قطب التصوف‏:‏ لا تغضب ولا تُغضب‏.‏ ه‏.‏

ولعروة بن الزبير- رضي الله عنه‏:‏

لن يبلغَ المجدَ أقوامٌ وإنْ كَرُمُوا، *** حتى يُذَلّوا وإن عَزّوا لأقوام

ويُشتَموا فتَرى الألوانَ مُشرِقةٌ، *** لا عَفْوَ ذُلَّ، ولكن عَفْوَ أحلام‏.‏

‏{‏والله يحب المحسنين‏}‏ الذين حازوا مقام الإحسان، فعبدوا الله بالشهود والعيان، فعم إحسانهم ذا الإساءة والإحسان والإنس والجان‏.‏ قال الحسن البصري‏:‏ ‏(‏الإحسان‏:‏ أن يعم إحسانه، ولا يكون كالشمس والريح والمطر‏)‏‏.‏ أي‏:‏ يخص بلداً دون بلد‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ ‏(‏ليس الإحسانُ أن تُحسنَ إلى من أحسن إليك، وإنما الإحسان أن تحسن إلى مَن أساء إليك‏.‏ فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة كنفقد السوق، خذ مني وهَات‏)‏‏.‏ وقال السري السقطي‏:‏ ‏(‏الإحسان‏:‏ أن تُحسن وقت الإمكان، فليس في كل وقت يمكنك الإحسان‏)‏، وأنشدوا‏:‏

ليس في كلَّ ساعةٍ وأوان *** تَتَهَيَّأ صنائعُ الإحسان

فإذا أمْكَنَتْ فبادرْ إليها *** حذَراً من تعذُّر والإمْكَان

وقال الورتجبي‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، علم الحق- سبحانه- عِلَلَ الخلق وميلهم إلى مُنى النفوس، فدعاهم بطاعته إلى العلتين‏:‏ المغفرة والجنة، ودعا الخاصة إلى نفسه، فقال‏:‏ ‏{‏ففرّوا إلى الله‏}‏، ثم أعْلَم أن الكل في درك امتحان الجرم، وأثبت بالآية ذنب الكل، لأنهم وإن كانوا معصومين من الزلل، فذنبهم قلة معرفتهم لأقدار الحق، كما قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لو أن الله عذب الملائكة لحق منه، فقيل‏:‏ إنهم معصومون، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ من قلة معرفتهم بربهم» ولذلك دعاهم إلى المغفرة‏.‏ ه‏.‏ قال في الحاشية‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏أثبت بالآية ذنب الكل‏)‏، يعني‏:‏ شمول قوله‏:‏ ‏{‏يغفر لمن يشاء‏}‏ مَنْ في السماوات الصادق بالملائكة، وإنما تكون المغفرة بعد ذنب، ولكنه في كل أحد على حسبه، وأما قوله‏:‏ دعاهم إلى المغفرة، فكأنه من قوله‏:‏ ‏{‏سارعوا إلى مغفرة من ربكم‏}‏، وأن الخطاب يعم من في السماوات أيضاً، وقد يتصور في حق الملائكة الاستنادُ لظواهر الأمور والاختلاف بينهم والاختصام، مما هو معرض للخطأ، وذلك من دواعي المغفرة، وكذلك القصور عن معرفة كنه جلاله الله‏:‏ نقصٌ لا يخلو منه مخلوق، لاستحالة الإحاطة به علماً، ولذلك كان الترقي في المعرفة لا حد له أبداً سرمداً‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏135- 136‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏135‏)‏ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والذين إذا فعلوا فاحشة‏}‏ أي‏:‏ فعلة بالغة في الفحش والقبح، كالزنى، ‏{‏أو ظلموا أنفسهم‏}‏ بأي ذنب كان، أو فعلوا كبيرة أو صغيرة، أو الفاحشة‏:‏ ما يتعدى للغير، وظلم النفس ما يخص، أو الفاحشة بالفعل، وظلم النفس بالقول، ‏{‏ذكروا الله‏}‏ أي‏:‏ عاقبه وغضبه وعرضه الأكبر، أو ‏{‏ذكروا الله‏}‏ في أنفسهم أن الله سائلهم عنه، أو كونه رقيباً عليهم، أو ‏{‏ذكروا الله‏}‏ باللسان ‏{‏فاستغفروا لذنوبهم‏}‏ بالندم والتوبة، ‏{‏ومن يغفر الذنوب إلا الله‏}‏ أي‏:‏ لا أحد يغفره إلا الله، والمراد‏:‏ وصفه تعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة، والحث على الاستغفار‏.‏

‏{‏ولم يصروا على ما فعلوا‏}‏ أي‏:‏ لم يدوموا عليها غير مستغفرين، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما أصَرَّ مَن اسْتَغفَر، ولو عَادَ في اليَوم سَبْعِينَ مَرَةً» وذلك إذا صحبه الندم، وقال أيضاً‏:‏ «لا كَبِيرةَ مَعَ الاستغفَار، ولا صَغيرَةَ معَ الإصْرارِ» قال قتادة‏:‏ إياكم والإصرار، فإنما هلك المصرون الماضون قِدْماً في معاصي الله تعالى، لم يتوبوا حتى أتاهم‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ أن الإصرار يضر بهم، أو‏:‏ وهم يعلمون أن لهم رباً يغفر الذنب؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «مَنْ أَذْنَبَ ذنْباً، وعَلِمَ أَنَّ له ربّاً يَغْفُرِ الذنوب، غَفَرَ له وإِنْ لمْ يسْتَغفر» وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى‏:‏ «من علم أني ذو قدرة على المغفرة غفرتُ له ولا أبالي» وفي بعض الكتب المنزلة‏:‏ «يا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ ما دَعَوْتني ورَجَوْتني لأغفرن لَكَ على مَا كَانَ منكَ ولا أُبَالِي» أو‏:‏ ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ أن التوبة تمحق الذنوب‏.‏

‏{‏أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم‏}‏؛ تغطية لذوبهم، ‏{‏وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها‏}‏، ولا يلزم من إعدادها للتائبين اختصاصهم بها، كما لا يلزم من إعداد النار للكفار اختصاصهم بها، ثم مدح أجر التائبين فقال‏:‏ ‏{‏ونعم أجر العالمين‏}‏، وانظر هذا الفرق العظيم الذي بين المحسنين وأهل اليمين، قال في الآية الأولى‏:‏ ‏{‏والله يحب المحسنين‏}‏ وقال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏ونعم أجر العاملين‏}‏، أهل الآية الأولى من خواص الأحباب، وأهل هذه يأخذون أجرهم من وراء الباب‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى عين التحقيق‏.‏

الإشارة‏:‏ أهل مقام الإحسان عملهم قلبي، كالسخاء والعفو وكظم الغيظ، وأهل اليمين عملهم بدني، بين طاعة ومعصية وغفلة ويقظة، إذا فعلوا فاحشة تابوا وستغفروا، وإذا فعلوا طاعة فرحوا واستبشروا، أهل مقام الإحسان غائبون عن رؤية أعمالهم ووجودهم، وأهل اليمين معتمدون على أعمالهم، إذا فعلوا طاعة قوى رجاؤهم، وإذا زلَّوا نقص رجاؤهم، أهل مقام الإحسان فانون عن أنفسهم باقون بربهم، وأهل اليمين أنفسهم موجودة وأعمالهم لديهم مشهودة، أهل مقام الإحسان محبوبون، وأهل اليمين مُحِبُّون، أهل مقام الإحسان فنيت عندهم الرسول والأشكال، وبقي في نظرهم وجود الكبير المتعال، وأهل اليمين‏:‏ الأكوان عندهم موجودة، وشموس المعارف عن قلوبهم مفقودة، أهل مقام الإحسان يعبدون الله على نعت الشهود والعيان، وأهل اليمين يعبدون الله من وراء حجاب الدليل والبرهان، أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان‏.‏

واعلم أن لمعرفة الشهود والعيان ثمرات ونتائج، حصرها بعضهم في إحدى عشرة خصلة‏.‏

الأولى‏:‏ الحرية، ومعناها أن يكون العارف فرداً لِفَرْدٍ، من غير أن يكون تحت رق شيء من الموجودات، لا من إغراض الدنيا ولا من أغراض الآخرة، فالحرية عبارة عن غاية التصفية والطهارة‏.‏ قال بعضهم‏:‏ ليس بحُرٍّ من بقي عليه من تصفية نفسه مقدار فص نواة، المكاتب عبد ما بقي عليه درهم‏.‏

الثانية‏:‏ الوجود، وهو الفوز بحقيقة الأشياء في الأصل، وهو عبارة عن إدراك مقام تضمحل فيه الرسوم، بالاستغراق في الحقيقة الأزلية‏.‏

الثالثة‏:‏ الجمع الأتم، وهو الحال الذي يقضي بقطع الإشارات، والشخوص عن الأمارات والعلامات، بعد صحة التمكين والبراءة من التلوين‏.‏

الرابعة‏:‏ الصحو، وهو عبارة عن تمكين حال المشاهدة، واتصالها، مع برء الروح من لدغات الدَّهَشِ، ولا يكمل الصحو إلا بحياة الروح بوارد الجمع الدائم‏.‏

الخامسة‏:‏ التحقيق، وهو الوصول إلى المعرفة بالله، التي لا تدْركُ بالحواس، لتخليص المشرب من الحق بالحق في الحق، حتى تسقط المشاهدات، وتبطل العبارات، وتفنى الإشارات‏.‏

السادسة‏:‏ البسط، ونعني به‏:‏ بسط الروح باسترسال شهود المعاني عند سقوط الأواني، وفي ذلك يقول ابن الفارض‏:‏

فما سكَنتْ والهمَ يوماً بموضع *** كذلك لم يسكُنْ مع النغَم الغَمُّ

السابعة‏:‏ التلبيس، وهو تغطية الأسرار بأستار الأسباب، إبقاء للحكمة وستراً عن العامة‏.‏

الثامنة‏:‏ البقاء، والمراد به الخروج عن فناء المشاهدة إلى بقاء المعرفة، من غير أُفُول بُخل بشمس المشاهدة، ولا رجوع إلى شواهد الحس، إنما هو استصحاب الجمع مع استنئاس الروح بحلاوة المعاني، فهو كبائِن دانٍ‏.‏ انظر بقيتها في ‏[‏بغية المسالك‏]‏‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏137- 139‏]‏

‏{‏قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏137‏)‏ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏138‏)‏ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ السُّدن‏:‏ الطرق المسلوكة، وقيل‏:‏ الأمم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ قد مضت ‏{‏من قبلكم سُننُ‏}‏ جرت على الأمم المكذبة لأنبيائها قبلكم، ‏{‏ولن تجد لسنة الله تبديلاً‏}‏، وهو إمهالي واستدراجي إياهم، حتى يبلغ الكتاب الذي أجل لهم، فإذا بلغهم أهلكتهم، وأدلتُ الأنبياء وأتباعَهم عليهم، فإذا هلكوا بقيت آثارهم دراسة، اعتباراً لمن يأتي بعدهم، ‏{‏فسيروا في الأرض‏}‏ وتعرفوا أخبارهم، وانظروا ‏{‏كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏ لأنبيائهم قبلكم، فكذلك يكون شأنكم مع مَنْ كذَّبكم‏.‏

‏{‏هذا‏}‏ الذي أمرتكم به من الاعتبار، ‏{‏بيان للناس‏}‏ لمن أراد أن يعتبر من الكفار، وزيادة هداية واستبصار ‏{‏للمتقين‏}‏‏.‏

ثم سلاَّهم وبشرهم فقال‏:‏ ‏{‏ولا تهنوا‏}‏ أي‏:‏ لا تضعفوا عن قتال عدوكم بما أصابكم، ‏{‏ولا تحزنوا‏}‏ على من قُتل منكم، وهم سبعون من الأنصار وخمسة من المهاجرين، منهم‏:‏ حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير- صاحب راية النبيّ صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن جحش، وعثمان بن شماس، وسعد مولى عتبة- رضي الله عنهم-‏.‏ أو‏:‏ ‏{‏لا تحزنوا‏}‏ لفوات الغنيمة ‏{‏وأنتم الأعلون‏}‏ بأن تكون لكم العاقبة والنصر، أو‏:‏ وحالكم أنكم أعلى منهم شأناً، فإنكم على الحق وقتالكم لله، وقتالكم في الجنة، وهم على الباطل، وقتالهم للشيطان، وقتلاهم في النار، فلا تفشلوا عن الجهاد ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏؛ فإن الإيمان يقتضي قوة القلب بالوثوق بالله والاعتماد عليه، أو‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ بما وعدتكم من العلو والنصر‏.‏ والله أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد خلت من قبلكم، أيها المريدون، سنن الله في أوليائه مع المنكرين عليهم من عوام عباده، فإنه أبعدهم عن ساحة حضرته، وحرمهم من سابق عنايته، حتى ماتوا على البُعد، فاندرست آثارهم وخربت ديارهم، فسيروا في الأرض وانظروا كيف كان عاقبة المكذبين لأوليائه، هذا بيان للمعتبرين، وزيادة هدى وموعظة للمتقين، فلا تهنوا أيها الفقراء وتضعفوا عن طلب الحق بالرجوع عن طريق الجد والاجتهاد، لما يصيبكم من أذى أهل العناد، وأنتم الأعلون بالنصر والتأييد، ورفع درجاتكم مع خواص أهل التوحيد، إن كنتم مؤمنين بوعد الملك المجيد، فمن طلب الله وجده، وأنجز بالوفاء موعده، لكن بعد تجرع كؤوس مرارة الصبر، ودوام الحمد والشكر، وأنشدوا‏:‏

لا تَحْسَبِ تَمْراً أَنْتَ آكِلُهُ *** لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبْرَ

تفسير الآيات رقم ‏[‏140- 143‏]‏

‏{‏إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏140‏)‏ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ‏(‏141‏)‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ‏(‏142‏)‏ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏143‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ القرح- بالفتح والضم-‏:‏ الجرح، وقيل‏:‏ بالفتح‏:‏ الجرح، وبالضم‏:‏ ألمه ووجعه‏.‏ والمداولة‏:‏ المفاعلة من الدولة، وهي الغلبة، و‏{‏الأيام‏}‏‏:‏ نعت أو خبر، و‏{‏نداولها‏}‏‏:‏ خبر أو حال، و‏{‏ليعلم‏}‏‏:‏ متعلق بمحذوف، أي‏:‏ وفعل ما فعل من الادالة ليعلم، أو عطف على علة محذوفة، أي‏:‏ نداولها ليكون كيت وكيت، وليعلم‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، إيذاناً بأن العلة فيه غير واحدة، وأن ما يصيب المؤمن‏:‏ فيه من المصالح ما لا يُعلم، و‏{‏يعلم الصابرين‏}‏‏:‏ منصوب بأن، على أنَّ الواو للجمع‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن يمسسكم‏}‏ في غزوة أحد ‏{‏قرح‏}‏ كقتل أو جرح، ‏{‏فقد مس القوم‏}‏ من أعدائكم يوم بدر ‏{‏قرح مثله‏}‏، فإن كان قُتل منكم خمسة وسبعون يوم أحد، فقد قتل منهم يوم بدر سبعون وأسُرَ سبعون‏:‏ أو‏:‏ ‏{‏فقد مسّ القوم‏}‏ يوم أحد ‏{‏قرح‏}‏ مثل ما أصابكم، فإنكم نلتم منهم وهزمتموهم، قبل أن تخالفوا أمر الرسول- عليه الصلاة-، كما نالوا منكم يومئذ‏.‏ ‏{‏وتلك الأيام نداولها بين الناس‏}‏ أي‏:‏ نُصرف دولتها بينهم، فنديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى، كما قال الشاعر‏:‏

فَيَوْمٌ عَلَيْنَا ويَوْمٌ لنَا، *** ويَوْمٌ نُسَاءُ، ويَوْمٌ نُسَرْ

فقد أديل المسلمون على المشركين يوم بدر، فكانت الدولة لهم، وأديل المشركون يوم أحد‏.‏ والمراد بالأيام‏:‏ أيام الدنيا، أو أيام النصر والغلبة‏.‏ وإنما أديل للمشركين يوم أحد ليتميز المؤمنون من المنافقين، ويظهر علمهم للناس، وليتخذ الله ‏{‏منكم شهداء‏}‏ حين ماتوا في الجهاد، أكرمهم الله بالشهادة، ولا تدل إدالة المشركين على أن الله يحبهم، فإن الله ‏{‏لا يحب الظالمين‏}‏‏.‏ وإنما أدلهم ‏{‏ليمحص الله الذي آمنوا‏}‏ أي‏:‏ ليطهرهم ويصفيهم من الذنوب، وأنما أدال المسلمين على المشركين ليمحق الكافرين ويقطع دابرهم‏.‏ والمحق‏:‏ نقص الشيء قليلاً قليلاً‏.‏

ثم عاتب المسلمين فقال‏:‏ ‏{‏أم حسبتم‏}‏ أي‏:‏ ظننتم ‏{‏أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم‏}‏ علم ظهور، ‏{‏ويعلم الصابرين‏}‏ أي‏:‏ لا تظنوا أن تدخلوا الجنة كما دخلها مَنْ قُتل منكم، ولم يقع منكم مثل ما وقع لهم من الجهاد والصبر على القتل والجرح؛ حتى يقع العلم ظاهراً بجهادكم وصبركم‏.‏

‏{‏ولقد كنتم‏}‏ قبل خروجكم إلى الجهاد ‏{‏تمنون الموت‏}‏ أي‏:‏ الحرب؛ لأنه سبب الموت، وتقولون‏:‏ ليت لنا يوماً مثل يوم بدر، فلقد لقيتموه وعينتموه يوم أحد ‏{‏وأنتم تنظرون‏}‏ من مات من إخوانكم، فما لكم حين رأيتموه جبنتم وانهزمتم‏؟‏ وهو عتاب لمن طلب الخروج يوم أحد، ثم انهزم عن الحرب، ثم تداركهم بالتوبة والعفو، على ما يأتي إن شاء الله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إن يمسسكم يا معشر الفقراء قرح؛ كحبس أو ضرب أو سجن أو حَرج أو جلاء، فقد مس العموم مثل ذلك، غير أنكم تسيرون به إلى الله تعالى لمعرفتكم فيه، وهم لا سير لهم لعدم معرفتهم، أو إن يمسسكم قرح فقد مسَّ القوم المتقدمين من أهل الخصوصية مثل ما أصابكم، ففيهم أسوة لكم، وهذه عادة الله في أوليائه، يديل عليهم حتى يتطهروا ويتخلصوا، ثم يُديل لهم، وإنما أديل عليهم حتى تيطهروا ويتخلصوا، ثم يُديل لهم، وإنما أديل عليهم أولاً ليتطهروا من البقايا وتكمل فيهم المزايا، وليعلم الصادق في الطلب من الكاذب، فإنَّ محبة الله مقرونة بالبلاء، وليتخذ منهم شهداء إن ماتوا على ذلك، كالحلاج وغيره، أو يتخذ منهم شهداء الملكوت إن صبرا حتى ظفروا بالشهود‏.‏

‏{‏والله لا يحب الظالمين‏}‏ أي‏:‏ المؤذين لأولياءه، بل يمقتهم ويبعدهم‏.‏

‏{‏وليمحص الله الذي آمنوا‏}‏ بطريق الخصوص، أي‏:‏ يخلصهم من بقايا الحس، سلط عليهم الناس، وليَمحق المنكرين عليهم بما يصيبهم من إذايتهم، فإن المنكر على أهل النسبة كمن يدخل يده في الغيران، فإذا سلم من الأول والثاني، قال‏:‏ لا يلحقني منهم شيء، فإذا أدخل يده في غار آخر لدغته حية فأهلكته‏.‏

أم حسبتم يا معشر المريدين أن تدخلوا جنة المعارف، ولما يعلم الله الذين جاهدوا نفوسهم، ويعلم الصابرين على إيذاية من آذاهم، ولقد كنتم تمنون موت نفوسكم وتطلبون ما يعينكم على موتها من قبل أن تلقوا الجلال، فقد رأيتموه وعاينتموه وأنتم تنظرون ما أصاب الأولياء غيركم، فما لكم تجزعون منه وتفرون من مواطنه‏؟‏‏.‏ وكان شيخ شيوخنا رضي الله عنه يقول‏:‏ العجب كل العجب، ممن يطلب معرفة الله، فإذا تعرف إليه أنكره‏.‏

وفي الحِكَم‏:‏ «إذا فتح الله لك وجهة من التعرف فلا تبال معها، وإن قلَّ عملك، فإنه ما فتحها إلا وهو يريد أن يتعرف إليك فيها، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك‏؟‏»‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏144- 145‏]‏

‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ‏(‏145‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏كتاباً‏}‏‏:‏ مصدر، أي‏:‏ كتب الموت كتاباً مؤجلاً‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وما محمد إلا رسول‏}‏ يصيبه ما أصابهم، ‏{‏قد‏}‏ مضت ‏{‏من قبله الرسل‏}‏، فسيمضي كما مضوا بالموت أو القتل، ‏{‏أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم‏}‏ بعد تقرر شريعته وظهور براهينه، عاتبهم على تقدير أن لو صار منهم انقلاب لو مات صلى الله عليه وسلم أو قتل، أو على صدر من بعض المنافقين وهم ساكتون‏.‏

قال أصحاب المغازي‏:‏ خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشعب من أحُد، في سبعمائة رجل، وأمَّر عبدَ الله بنَ جبيرٍ على الرماة، وهم خمسون رجلاً، وقال‏:‏ انضحوا عنا بالنبل، لا يأتونا نم خلقنا، لا تبرحوا مكانكم؛ كانت لنا أو علينا، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتُّم مكانكم، فجاءت قريش، وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة، ومعهم النساء‏.‏ ثم انتشب القتال فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «مَنْ يأخذ هذا السيف بحقه‏؟‏» فجاء رجال فمنعهم، حتى جاء أبو دُجانة، فقال‏:‏ وما حقه يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «تضرب به العدو حتى ينحني»، وكان رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، فأخذه واعتم بعمامة حمراء، وجعل يتبختر بين الصفين، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنها لمشيةٌ يبغضها الله إلاّ في هذا الموضع»‏.‏

ثم حمل النبيّ صلى الله عليه وسلم على المشركين فهزموهم، قال الزبير‏:‏ ‏(‏فرأيت هنداً وصواحبها هارباتٍ مصعدات في الجبل‏)‏، فلما نظر الرماة إلى القوم قك انكشفوا، قالوا‏:‏ الغنيمة الغنيمة فقال لهم بعضهم‏:‏ لا تتركوا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يلتفتوا، وانطلق عامتهم، فلما رأى خالد قلة الرماة، صاح في خيله من المشركين، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلفهم، وقتل عبد الله بن جبير، واختلط الناس، فقتل بعضُهم بعضاً، ورمى عبدُ الله بن قمئة الحارثي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بحجر، فكسر أنفه ورباعيته، وشجَّه في وجهه، وكسر البيضة على رأسه، فذبَّ عنه مصعبُ بن عمير، وكان صاحب الراية، فقتله ابن قمئة وهو يرى أنه قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم ن فرجع إلى قومه، وقال‏:‏ قد قتلت محمداً، وصرخ صارخ‏:‏ ألا إنَّ محمداً قد مات‏.‏ وقيل‏:‏ إنه الشيطان، فانكفأ الناس، وجعل الرسول- عليه الصلاة والسلام- يدعو‏:‏ «إليَّ عباد الله»، فانحاز إليه ثلاثون من الصحابة، وضموه حتى كشفوا عنه المشركين، وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست، حتى وقَى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصيبت عين قتادة بن النعمان، حتى وقعت على وجنتيه، فردها النبيّ صلى الله عليه وسلم مكانها، فعادت أحسن مما كانت‏.‏

وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات- فقال بعض المسلمين‏:‏ ليت ابنُ أُبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان‏.‏ وقال بعض المنافقين‏:‏ لو كان نبيّاً ما قتل، ارجعوا إلى دينكم الأول‏.‏ فقال أنس بن النضر- عمُّ أنس بن مالك‏:‏ ‏(‏إن كان قد قتل محمدٌ فَإِنَّ رب محمد لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعده‏؟‏ فقاتلوا على ما قاتل عليه، حتى تمتوا على ما مات عليه‏)‏‏.‏ ثم قال‏:‏ اللهم إني أعتذر إليك ما صنع هؤلاء- يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء- يعني الكفار-، ثم شدّ سيفه وقاتل حتى قُتل، رحمة الله عليه‏.‏

فأنزل فيما قال المنافقون‏:‏ ‏{‏ومن ينقلب على عقبيه‏}‏ بارتداده ‏{‏فلن يضر الله شيئاً‏}‏ وإنما يضر نفسه، ‏{‏وسيجزي الله الشاكرين‏}‏ على نعمة الإسلام بالثبات عليه، كأنس وأضرابه، ‏{‏وما كان‏}‏ ينبغي ‏{‏لنفس أن تموت إلا بإذن الله‏}‏ أي‏:‏ بإرادته ومشيئته، أو بإذنه لملكٍ في قبض روحه، والمعنى‏:‏ أنَّ لكل نفس أجلاً مسمى في علمه تعالى وقضائه، لا تستأخر عنه ساعة ولا تستقدم، بالتأخر عن القتال ولا بالإقدام عليه، وفيه تشجيعهم على القتال ووعد للرسول بحفظه وتأخر أجله؛ فإن الله تعالى كتب أجل الموت ‏{‏كتاباً مؤجلاً‏}‏؛ مؤقتاً لا يتقدم ولا يتأخر‏.‏

ونزل في الرماة الذين خالفوا المركز للغنيمة‏:‏ ‏{‏ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤتها منها‏}‏ الجزاء الجليل، ‏{‏وسنجزي الشاكرين‏}‏ الذين كروا نعم الله، فلم يشغلهم شيء عن الجهاد في سبيل الله، بل كان همهم رضي الله ورسوله دون شيء سواه‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي للمريد أن يستغني بالله، فلا يركن إلى شيء سواه، وتكون بصيرته نافذة حتى يغيب عن الواسطة بشهود الموسوط، فإن مات شيخه لم ينقلب على عقبيه، فإن تمكن من الشهود فقد استغنى عن كل موجود، وإن لم يتمكن نظر من يكمله، فالوقوف من الوسائط وقوف مع النعم دون شهود المنعم، فلا يكون شاكراً للمْنعم حتى لا يحجبه عنه شيء، ولما مات- عليه الصلاة والسلام- دهشت الناس، وتحيّرت لوقوفهم مع شهود النعمة، إلاَّ الصدِّيق؛ كان نفذ من شهود النعمة إلى شهود المُنعم، فخطب حينئذٍ على الناس، وقال‏:‏ ‏(‏مَنْ كانَ يَعْبُدُ مُحَمَّداً فإن مُحَمَّداً قَدْ ماتَ، ومَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللّهَ حَيٌ لاَ يَمُوتِ‏)‏‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وما محمد إلا رسول‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وسنجزي الشاكرين‏}‏، وهم الذين نفذوا إلى شهود المنعم، ولم يقفوا مع النعمة‏.‏

ودخل بعض العارفين على بعض الفقراء فوجده يبكي، فقال له‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ قال‏:‏ مات أستاذي، فقال له العارف‏:‏ ولم جعلت أستاذك يموت‏؟‏ وهلا جعلته حيّاً لا يمت‏.‏ فنبهه على نفاذ بصيرته إلى شهود المنعم دون الوقوف مع النعمة، فالشيخ الحقيقي هو الذي يغني صاحبه عنه وعن غيره، بالدلالة على ربه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏146- 148‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ‏(‏146‏)‏ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏147‏)‏ فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏148‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏كأَيِّن‏}‏‏:‏ أصله‏:‏ أيْ، دخلت الكاف عليها وصارت بمعنى ‏{‏كم‏}‏، وأثبت التنوين نوناً على غير قياس، وقرأ ابن كثير، ‏{‏وكائن‏}‏، على وزن فاعل، ووجهه‏:‏ أنه قلب الياء قبل الهمزة فصار‏:‏ كيَاءٍ، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فصار كائن، وهما لغتان، وقد جمع الشاعر بينهما في بيت، فقال‏:‏

كَأيّنْ أبَدْنَا مِنْ عَدوٍّ بعِزِّنا *** وكَائِنْ أجَرْنا مِنْ ضَعيفٍ وخائِفِ

و ‏{‏الرِبِّيون‏}‏‏:‏ جمع رُبَّة، أي‏:‏ الفرقة‏.‏ أي‏:‏ معه جموع كثيرة، وقيل‏:‏ العلماء الأتقياء، وقيل‏:‏ الولاة، وهو‏:‏ إما مبتدأ فيوقف على ‏{‏قُتل‏}‏، أو نائب فاعل ‏{‏قُتل‏}‏، أو فاعل على من قرأ بالبناء له، و‏{‏كثير‏}‏‏:‏ نعت له، كقوله‏:‏ ‏{‏وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ‏}‏ ‏[‏التّحْريم‏:‏ 4‏]‏؛ لأن فعيلاً يخبر به عن المفرد والجمع‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وكأين‏}‏؛ وكم ‏{‏من نبي قتل‏}‏ في المعركة ومعه جموع كثيرة، أو ربانيون علماء أتقياء، فلم يفشلوا ولم يضعفوا، بل ثبتوا على دينهم وجهاد عدوهم، أو يقول‏:‏ كثير من الأنبياء قتل معهم ربانيون كثير، أي‏:‏ ماتوا في الحرب فثبت الباقون، ولم يفتروا ولم يضعفوا عن عدوهم، ويترجح الأول بما صرَخَ به الصارخ يوم أحد‏:‏ إن محمداً قد مات، فضرب لهم المثل بقوله‏:‏ ‏{‏وكأين من نبي قُتل‏}‏، ويترجح الثاني بأنه لم يقتل نبيّ قط في المحاربة‏.‏

أو‏:‏ ‏{‏وكأين من نبيّ قاتل‏}‏ أي‏:‏ جاهد معه ‏{‏ربِّيون كثير‏}‏، وبعدما قتل نبيهم أو جموعهم ‏{‏فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله‏}‏ أي‏:‏ فما فتروا‏:‏ ولم ينكسر جندهم؛ لأجل ما أصابهم من قتل نبيهم أو بعضهم، ‏{‏وما ضعفوا‏}‏ عن جهاد عدوهم ولا عن دينهم، ‏{‏وما استكانوا‏}‏ أي‏:‏ خضعوا لعدوهم، من السكون؛ لأن الخاضع يسكن لعدوه يفعل به ما يريد، فالألف إشباع زائد، أي‏:‏ فما سكنوا لعدوهم بل صبروا له، ‏{‏والله يحب الصابرين‏}‏ فينصرهم ويعزهم ويُعظم قدرهم‏.‏

‏{‏وما كان قولهم‏}‏ عند قتل نبيهم مع ثباتهم على دينه، ‏{‏إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا‏}‏ الصغائر، ‏{‏وإسرافنا في أمرنا‏}‏ أي‏:‏ ما تجاوزنا به الحد في أمر ذنوبنا، كالكبائر، ‏{‏وثبت أقدامنا‏}‏ في مداحض الحرب؛ لئلا ننهزم، ‏{‏وانصرنا على القوم الكافرين‏}‏ من أعدائنا، فَهلاَّ فعلتم مثلهم، وقلتم ذلك يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏فآتاهم الله‏}‏ في ثواب الاستغفار واللجوء إلى الله ‏{‏ثواب الدنيا‏}‏ وهو النصر والغنيمة والعز وحسن الذكر، ‏{‏وحسن ثواب الآخرة‏}‏ وهو النعيم الذي لا يفنى ولا يبيد، وخص ثواب الآخرة بالحسن؛ إشعاراً بفضله، وأنه المعتد به عنده، ‏{‏والله يحب المحسنين‏}‏ الثابتين على دينهم، لأنهم أحسنوا فيما بينهم وبين ربهم بحفظ دينه، فأحبهم الله وقربهم إلى حضرته‏.‏

الإشارة‏:‏ وكم من المريدين والأتباع مات شيخهم أو قتل، فثبتوا على طريقهم، فما فَشِلوا ولا ضعفوا، ولا خضعوا لمن يقطعهم عن ربهم، بل صبروا على السير إلى ربهم، أو الترقي في المقامات، ومن لم يرشد منهم طلب من يكمل له، ‏{‏والله يحب الصابرين‏}‏، فإذا أحبهم كان سمعهم وبصرهم، كما في الحديث‏.‏ وما كان حالهم عند موت شيخهم إلا الالتجاء إلى ربهم، والاستغفار مما بقي من مساوئهم، وطلب الثبات في مواطن حرب أنفسهم، فأعطاهم الله عزّ الدنيا والآخرة عزّ الدنيا بالإيمان والمعرفة، وعزّ الآخرة بدوام المشاهدة، فكانوا أحباب الله؛ ‏{‏والله يحب المحسنين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏149- 150‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن تُطيعوا الذين كفروا‏}‏ وهم المنافقون، لما قالوا للمسلمين عند الهزيمة‏:‏ ارجعوا إلى دينكم الأول، ولو كان نبيّاً ما قتل، ‏{‏يردوكم على أعقابكم‏}‏ راجعين عن إيمانكم، ‏{‏فتنقلبوا خاسرين‏}‏ مفتونين عن دينكم، فتحبط أعمالكم فتخسروا الدنيا والآخرة، بل أثبتوا على إيمانكم، فإن الله ‏{‏مولاكم‏}‏ سينصركم ويعزكم، ‏{‏وهو خير الناصرين‏}‏، وقيل‏:‏ إن تسكنوا إلى أبي سفيان وأشياعه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم‏.‏ وقيل‏:‏ عام في مطاوعة الكفرة والنزول على حكمهم؛ فإنه يجر إلى موافقتهم على دينهم، لا سيما إن طالت مدة الاستئمان‏.‏

قلت‏:‏ وهذا هو السبب في ارتداد من بقي من المسلمين بالأندلس حتى رجعوا نصارى، هم وأولادهم، والعياذ بالله من سوء القضاء‏.‏

الإشارة‏:‏ يا أيها المريدون- وخصوصاً المتجردين- إن تطيعوا العامة، وتركنوا إليهم، يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بطلب الدنيا وتعاطي أسبابها، فتزلَّ قدمٌ بعد ثُبْوتها، وتنحط من الهمة العالية إلى الهمة السفلى، فإن الطباع تُسرق، والمرء على دين خليله، بل أثبتوا على التجريد وتحقيق التوحيد، فإن الله مولاكم ‏{‏وهو خير الناصرين‏}‏؛ فينصركم ويعزكم ويغنيكم بلا سبب، كما وعدكم؛ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيثُ لاَ يَحْتَسِبُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏